أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ
السّنةُ الثّالِثَةُ
(٢٥)
نــــــــــزار حيدر
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.
كما يُقالُ؛ شِرْتُ العسلَ، اذا أخذتهُ من موضعهِ واستخرجتهُ مِنْهُ، كما في (الرّاغب) كذلك فانّ قرار الجماعة، وعلى مختلف المستويات، يلزم ان يكونَ كذلك، لا يستبدَّ بهِ واحِدٌ أَيّاً كان اسمهُ ورسمهُ وعلمهُ وموقعهُ، او حتّى مجموعة، فكلّما زاد التّشاور والمشاورة والمشورة لاستخراج الرّأي بمراجعةِ البعض الى البعض من قولهِم، كلّما كرّست الجماعة الإحساس بالمسؤوليّة عند أعضائِها، فالمرءُ يشعر بالمسؤولية إِزاء القرار الذي يشارك في اتّخاذهِ اكثر بكثيرٍ لو كان بعيداً عن أجوائهِ.
فلقد كان أَميرُ المؤمنين (ع) يحرّض المجتمع على التّشاور من خلال إِصغائهِ شخصيّاً الى رأي النّاس، من جانب، ومن خلال صناعة الأجواء الآمنة التي تحثّهم وتشجّعهم على حريّة التّعبير والافصاح عن رأيهم، من جانبٍ آخر، فكما أسلفنا فيما مضى فانّ اجواء الرّهبة والخوف والرّعب لا تشجّع صاحب الرّأي على الإدلاء بما يعتقد به بحريّةٍ وبكامل الاختيار، وهذه من مسؤولية الحاكم على وجه التّحديد، الى جانب المجتمع بشكلٍ عام، في خلق الأجواء النقيّة والصحيّة والسّليمة والآمنة لادلاءِ اصحاب الاراء والأفكار بما يعتقدون بهِ بحريَّةٍ تامَّةٍ، حتى اذا تعارض رأيهم مع رأي الحاكم او مع الرّأي السائد، فمن أدوات الديمقراطيّة اليوم، كما هو معروف، حريّة التّعبير من جهةٍ ووجوب الاصغاء لرأي الآخر حتّى اذا اختلف معك، من جهةٍ أُخرى.
انّهُ (ع) كان يحثُّ على الرّأي والرأي الاخر، ويعلّمهم أدب المشورة، فقد خطب في اصحابهِِ مرّةً قائلاً {فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي، وَلاَ الِْتمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ.
فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالٍ بِحَقّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْل، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِىءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا الْبصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى}.
انظروا كيف كان الامام (ع) يخلق الجوّ الآمن بنفسهِ، وهو الحاكم الاعلى في البلاد، من خلال التّواضع من جانب ورفض تعامل اصحابهِ معه بالمداراة على حساب حريّة التّعبير وقول الرّأي الذي يراهُ احدهُم حقاً وصحيحاً ومُفيداً.
وكلُّ ذلك من أَجل ان يحمّلهم المسؤولية عند الفشل تحديداً، عندما يتهرّب الجميع من تحمُّلها، فلقد قيل [للنّصرِ مليونُ أَبٍ، امّا الهزيمةُ فيتيمةٌ!] فلا يقولنَّ احدٌّ منهم انّهُ فوجئ بقرارٍ او أُخذ على حينِ غرَّةٍ بموقفٍ او انّهُ لم يكُن يعرف بماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟ فكَّر الامام بهذه الطّريقة وليس بغيرِها.
وَلِذلِكَ فعندما انقلبَ الخوارج على قرار الحكومة، والمقصود التّحكيم، الذي شاركوا في بلورتهِ والدّفع باتّجاههِ، بغضّ النظر عن ايّ شيء، فانّ الامام اوّل ما حاججهُم بهِ هو انّهُ حمّلهم مسؤوليّة الالتزام بالقرار وتحمّل تبعاتهِ مهما كان نوعها ومهما عظُمت التّحدّيات لانّهم شاركوا في بلورتهِ وهم ممّن اشار على الامام وانّهُ (ع) كان قد أصغى الى رأيهِم وبالتّالي بنى موقفهُ ورأيهُ وقرارهُ من الحكومة على أساس رأي الاغلبيّة على الرّغم من اختلافهِ مع حيثيّاتهِ ومقدِّماتهِ، وعلى الرّغم من انّهُ كان قد حذّر من ذلك، ولهذا السّبب يمكن الجزم بانّ الشورى عاملٌ مهمٌّ جداً من عوامل تكريس الإحساس بالمسؤوليّة.
لنقرأ كيف بنى الامام المسؤوليّة على الشّورى، عندما حاججهُم بقوله {فأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ، فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ، ولاَ يُجَاوِزَاهُ، وَتَكُونَ أَلْسِنَتُهُما مَعَهُ وَقُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا، وَالاِْعْوِجَاجُ دَأْبَهُمَا، وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا، وَالثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لاَِنْفُسِنَا، حِينَ خَالفَا سَبِيلَ الْحَقِّ، وَأَتَيَا بِمَا لاَ يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ}.
وفي كلام آخر معهم، يَقُولُ عليه السلام {فَلَمْ آتِ ـ لاَأَبَا لَكُمْ ـ بُجْراً، وَلاَ خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ، وَلاَ لبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلاَّ يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَليْهِ، وَقَدْ سَبَقَ استِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا ـ فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ، وَالصَّمْدِ لِلْحَقِّ ـ سُوءَ رَأْيِهِمَا، وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا}.
بل انّهُ حذّر من الانقلابِ على الحكومةِ بعد اتّفاق الاغلبيّة على القرار، على الرّغم من انتباههِم الى خطأ رأيهم متأخراً، الا انّ الاصلاح والتّغيير، برأي الامام، لا يكون بهذه الطّريقة الفوضويّة التي انتهجها وسار عليها الخوارج (التكفيريّون) اذ يلزم العودة مرّةً أُخرى الى رأي الاغلبيّة مهما كانت النّتائج، ولذلك ظلّ يحذّرهم الامام (ع) من مغبّة الفوضى في كسرِ القرار والخروج على الاجماع، كما خاطبهُم بقولهِ (ع) {وَالْزَمُوا السَّوَادَ الاَعْظَم فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ! فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّةَ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ.
أَلاَ مَنْ دَعَا إِلَى هذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هذِهِ، فَإِنَمَّا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيا الْقُرْآنُ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، وَإِحْيَاؤُهُ الاجْتَِماعُ عَلَيْهِ، وَإِمَاتَتُهُ الافْتَرَاقُ عَنْهُ، فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُم، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا}.
كل هذا على الرّغم من انَّ رأي الامام كان على النّقيض من رأي الاغلبيّة، كما يقول عليه السّلام {وَقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هذِهِ الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ المخالفين، حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَىْ هَوَاكُمْ، وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ، سُفَهَاءُ الاَْحْلاَمِ، وَلَمْ آتِ ـ لاَ أَبَا لَكُمْ ـ بُجْراً، وَلاَ أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً}.
وفي قولهِ وهو يشرح سبب البلوى {أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الُْمجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ، وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ في هذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخزُونَ رَأْيِي، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِير أَمْرٌ! فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الُْمخَالِفِينَ الْجُفَاةِ، وَالمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ، حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ، وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ، فَكُنْتُ وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ: أَمَرْتُكُمُ أَمْري بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى * فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاَّ ضُحَى الْغَدِ}.
بل انّهُ كانَ قد بذلَ كلّ جهدهِ لصرفهِم عن رأيهم غير السّليم، كما يصف ذلك بقولهِ (ع) {هذا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ! أَمَا وَاللهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِما أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْراً، فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ، لَكَانَتِ الْوُثْقَى، وَلكِنْ بِمَنْ وَإِلَى مَنْ؟ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَأَنْتُمْ دَائي، كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا!}.
هذا يعني انّ الامام (ع) يحترم رأي الاغلبيّة حتى اذا تقاطعَ مع رأيهِ من أجلِ ان يحمّلهم المسؤولية، عند الحساب، ولذلك نراهُ كانَ واضحاً معهم في كلِّ خطوةٍ من الخطوات التي أنتجت قرار الحكومة، فهو لم [يختلُهم (اي يخدعهم)] على حدِّ قولهِ، ولم [يلبّسهُ عليهم (اي يخلط الامر ويشبّههُ عليهم حتى لا يُعرف)] على حدِّ قولهِ كذلك.
وهذه من أرقى واهمٌ وأعظم شروط المشورة، الوضوح وعدم التّضليل وحرّيّة الوصول الى المعلومة، وأحياناً حتّى الأسرار، فذلك يُزيدُ من فرص تحميل الآخر المسؤوليّة عند الفشل تحديداً، والى ذلك تُشير الآية الكريمة {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}.
٣٠ حزيران ٢٠١٦
للتواصل؛
E-mail: nhaidar@hotmail. com
Face Book: Nazar Haidar
WhatsApp & Viber& Telegram: + 1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق